أعلن مجموعة من العلماء، أخيراً، عن تمكنهم من اكتشاف ما تبقى من الجين البشري. بصورة أدق، تكوين سلسلة ما تبقى من الجينات في الحمض النووي البشري، الذي أعلن منذ عشرين عاماً، أنّه تم اكتشافه بأكمله، لكن حينها بقيت 8 في المائة غير مرتبة، أو غير “مكتشفة”، وتم تجاهلها وإنشاء نسخة منها لا يمكن التعويل عليها.
هذه البروتينات الباقيّة يقال إنّها مسؤولة عن وعينا بذاتنا، أو كيف تعبر الجينات عن الأوامر التي تحويها وكيفية ظهورها في الجسد البشري. بعيداً عن الجانب العلميّ، هذه الكتلة الناقصة كانت محط جهود كتاب الخيال العلمي، كما شاهدنا في فيلم “لوسي” الصادر عام 2014 للفرنسي لوك بيسون، الذي نكتشف فيه أنّ هذه الثمانية في المائة، في حال تم اكتشافها ومعرفة كيفية “استخدامها”؛ فسنصبح قادرين على التحكم بحمضنا النووي، وتغير أشكالنا وسلالاتنا وكلّ ما يُعرّفنا كبشر، كما حصل مع لوسي التي تتماهى نهاية الفيلم مع “العالم”؛ لأنّها كانت تريد أن تعرف “البداية”، بداية كلّ شيء.
الجهد الطبي والحكايات المتخيلة حول الجين البشريّ، تدفعنا لإعادة النظر في أنفسنا، خصوصاً أنّها تقدم بديلاً عن النظريات العلميّة والسياسية، التي تقول إنّنا، كـ”بشر” إما نتاج التطور الطبيعي بتنويعاته وأساليبه، أو نتاج قوى تتحكم بوعينا وتكويننا، وأحياناً شكلنا، وهذا ما يتمثل في نظريات السياسة الحيويّة المعاصرة، وبعض نظريات ما بعد الإنسانويّة.
وفي حال سلمنا بقدرة البشر على التحكم بأسلوب انقسام الخلايا وتغيير الحمض النووي، هذا يعني كثيراً من التساؤلات حول حدود الوعي، وإمكانية وجود “أصل” مشترك لكلّ “شيء” تفرّعت منه، حسب هذه القدرة، كلّ الموجودات. في ذات الوقت، هناك سؤال: ما هو شكل “الأصل”؟ هل هو إنسان، شجرة، قطعة من بروتين ما؟ وهل يمكن أن نفقد هذه القدرة أثناء التحول بين “الموجودات”؟
الخيال العلمي أجاب عن كثير من الأسئلة السابقة، خصوصاً عند المقارنة مع عالم الحيوان، فالكائنات التي تجدد أطرافها شكلت غواية هائلة للعلماء، وفي ذات الوقت هناك الأساطير والحكايات الدينيّة، التي أيضاً نتلمس فيها هذه التحولات والقدرات الجينية، والتي يرى بعضهم أنّها تشير إلى هذه الـ 8% وفعاليتها ضمن تكويننا.
يظهر أيضاً ضمن المتخيلات المرتبطة بهذه السلسلة الجينيّة سؤال الذاكرة، أي هل “نسينا” كبشر هذه القدرة التي نمتلكها؟ ولِمَ لمْ “يتذكرها” أحد على مر التاريخ؟ إذ يمكن قراءة كلّ تاريخ البشرية بوصفه تاريخاً للنسيان، وعدم القدرة على استعادة ما يمكن تسميته بجين الآلهة، والقدرة على التحول والتغير. مع ذلك، يمكن قراءة كلّ ما سبق بسخريّة تامة، والنظر إلى الموضوع بوصفه مجرد تخيلات عشاق الخيال العلمي والعلماء الطامحين لكشف “الحقيقة” الجامعة المانعة.
ما هو “واقعي” بخصوص الاكتشاف الكليّ لخريطة الجين البشري، هو إمكانيّة القضاء على كلّ الأمراض تقريباً، من الزكام إلى أمراض السرطان بأنواعها، والقدرة على إعادة تكوين جهاز المناعة والتحكم بخصائص الأجيال القادمة، واستبدال الأعضاء التالفة مخبرياً، وما سبق بالضبط هو ما يثير الرعب، خصوصاً حين نتعرف على جهود القراصنة الحيوييّن، ومحاولاتهم “دفع” التطور إلى الأمام عبر التدخل المباشر في الجينات، والعمل على تعديلها، وتهجينها.
التسابق الهاوي والعلمي نحو التعديل الجيني قد يتركنا حقيقةً أمام سيناريو مشابه لما نشاهده في أفلام المتحولين، حيث العاديون في حرب مفتوحة وغير متوازنة ضد المعدلين أو الطفرات، والأمر ليس محض مخيّلة، الكثير من النظريات المرتبطة بالتطور تقول إنّ السلالات البشرية الأخرى، كالنياندرتال، ونتيجة الصراع مع الإنسان العاقل، تلاشت أو انقرضت.
وربما قريباً سيكون هناك صراع جديد بين الإنسان العاقل، والإنسان كامل الوعي، والنتيجة ستكون محسومة كما نعرف من تاريخ التطور، الأضعف سيختفي، ويبقى أولئك القادرون على التحكم بحمضهم النووي.