درس في التثبت والتبين وفي مسؤولية الكلمة والحذر من اللحن في الحجة .
آفة وسائل التواصل المعاصرة سرعة تناقل الأخبار والروايات المرسلة من جهة ، هي آفة ملازمة لعدد من مستخدميها تتمثل في سرعة إصدار المواقف بناء على تلك المرويات و ضعف تقليب النظر في تلك المرويات في حالة صحتها وفي تفسيرها والسرعة في إصدار أحكام متسرعة منفعلة
وهو مما يتعارض مع مبدأ التبث من الاخبار من جهة ومن جهة ثانيا مع إعمال مناهج القراءة الصحيحة في قراءة الصحيح منها وفهمها في سياقها ومقاصدها التي قد لا تظهر لمن لا يمتلك أدوات التحليل والفحص وشبكة سليمة في التلقي والغربلة وعلى الخصوص حين تحمل تلك الأخبار مسا في ذمة الأشخاص نيات وأفعالا وتصرفات
، وهو يتعارض مع القاعدة القائلة : إن كنت ناقلا بالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل،
وهو ما يتعارض أيضا مع قياس الأولى الذي يقوم على أن الأصل إحسان الظن ابتداء فيمن نعرف صلاحهم ، والرجوع إلى من لهم الأهلية والمعطيات الكافية لفهم ما يرد من روايات متشابهة بدل إشاعة أخبار السوء ( وفي سياقنا المعاصرة المؤسسات والهيئات ذات الاختصاص) مصداقا لقوله تعالى :
” واذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى الأمر منهم لعلمه الذين بستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا “
وتمثل حادثة النزاع الذي وقع بين رجلين أحدهما يمتلك تسعا وتسعين نعجة وثانيهما نعجة واحدة عند احتكامهما لنبي الله داوود درسا تربويا بليغا يحكيها القرآن تعليما وإرشادا في قوله تعالى:
” إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب “
وفي تعليق سيد قطب في ظلال القرآن على هذه القصة قال :
” وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك، وللقضاء بين الناس. ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحاً لله في المحراب. وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه ففزع منهم، فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين! فبادرا يطمئنانه . { قالوا : لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض } . وجئنا للتقاضي أمامك { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط } . . وبدأ أحدهما فعرض خصومته : { إنَّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة . فقال : اكفلنيها } ( أي اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي ) { وعزني في الخطاب } ( أي شدد علي في القول وأغلظ ) .
والقضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل. ومن تم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة . ولكنه مضى يحكم : { قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه . وإن كثيراً من الخلطاء ( أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض ) ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } . .
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان : فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم .”
وردت هذه القضية في حق نبي من الأنبياء وهو داوود، وورد ما في معناها تنبيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسؤولية المتقاضي أو الخصم في تحري العدل والانصاف وقول الحقيقة حين قال صلى الله عليه وسلم :
” إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم يكون ألحن من بعض في الحجة فأقضي له بحق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار فليأخذ أو فليدع ”
بذلك يتبين حجم الضرر في التسرع بإلقاء الكلام على عواهنه والتسرع في إصدار الأحكام على التصرفات بل في إصدار اتهامات النوايا ومن ثم حجم الأضرار على الأمن الأخلاقي والاجتماعي.