– يرسم الفنان دائما ما يراه ويحس به ويتفاعل معه في حياته اليومية، فالفنان الذي تكون حدود رؤيته فقط فيما حوله من عناصر نجده يرسم البيئة و الكون والأشخاص والواقع بطريقة مباشرة وذلك لا ينقل تجربة شخصية وفريدة لمتلقي العمل الفني، فهذه المهمة تقوم بها الكاميرا الفوتوغرافية، ولم يعد دور الفنان أن يلتقط صورا مطابقة للواقع، لذلك يجب أن يتجلى وعي وحدس الفنان المعاصر كثيرا في عمله الفني، فقد أصبح دوره أن يمثل العالم برؤيته هو، بل ويتنبأ بما سنصبح عليه في المستقبل، وتمتد حدود رؤيته هذه من أعمق نقطة في مكنونات نفسه إلى أبعد مسافة في الكون الشاهق.
يسعى الفن عموما إلى القبض على الفضاء وتطويعه، بل إن هذا السعي يمتد إلى حدود اختراق الفضاء عينه، وصولا إلى أبعاده الكونية، وقد شكل الفضاء (الكوسموس) منبعا شعريا ألهم الفنانين على طول الحقب التاريخية للفن. فمنذ العهد الروماني وجد الفنانون أنفسهم أمام بلاغة شاعرية وهم ينظرون إلى الفضاء الخارجي، الذي يعدّ مصدرا للإلهام لا ينضب. أما في عصر النهضة، وحرصا على تمثيل الواقع بكل أبعاده، عمد الفنان إلى استلهام صور علم الفلك وإدراج سموات جديدة في العمل الفني.
ومعسيرورة تاريخية عرف هذا الفن تطورا كبيرا نظرا لان الفنان تمكن من تجاوز الفضاء البصري العيني، لينقل عوالم غير متوقعة، وأكثر دهشة. خصوصا مع مطلع القرن العشرين وقبله بقليل في القرن 19، ستكتظ الصور بالأجرام والسدم، وستتعدد منابع الفنان لمعالجة رؤيته للفضاء والكون، بل إن اشتغاله على اللون سيتغير مستلهما سحر الألوان السديمية، ما سيتولد عنه اتجاهات فنية متعددة من انطباعية وتجريدية وسيريالية ووحشية ومستقبلية، الأمر الذي أدى إلى قلب الإيقونوغرافيا السماوية القديمة، وإلى دخول الفن في تكيف مغاير مع التقدم الحاصل على مستوى الاكتشاف الكوني من أجرام وسُدم وكواكب ونجوم.
من هذا التداخل الفني العلمي، يشتغل الفنان التشكيلي والناقد الفني المغربي عزالدين الهاشمي الإدريسي على أعماله الفنية الأخيرة، التي يوظف فيها تقنيات مختلطة تروم إلى الكشف عما وراء السماء الأرضية، ما وراء النجوم، أمام لوحات تكاد تتجاوز هذا التصنيف إلى اعتبارها تنصيبات فنية مصغرة معلقة على الجدار. الأمر الذي يمنحها ملمحا معاصرا، مصحوبا ببعد شاعري، ويبقى الفضاء هو المهمة الفنية التي يسعى لتمثيلها الفنان. ولأن الكون هو الشاهد على التقارب الحاصل بين الخيال العلمي والبحث الفني، يتأمل عزالدين الهاشمي في معرضه هذا تلك الأشياء التي تكون – عادة- خارج نظر العالم، جاعلا من الفن يتيح لنا نظرة مغايرة على هياكل وأنظمة الكون، بأناقة وانسجام استتيقي يجمع بين تقنيات متنوعة وأبعاد بصرية أندلسية من زخرفة وفسيفساء والأرابيسك وغيرها… جاعلا المتلقي ينسجم مع النسيج الكوني.
مستعينا بتقنية الكولاج والصمغ يركب الهاشمي خاماته فوق سنده العامر بمواد وأصباغ تشكل أبعادا كونية، إذ يعتمد على التجريب أسلوبا يتكئ عليه لينشئ أكوانه المتوازية. جامعا بين التجريدية الهندسية والغنائية من حيث لعبه بالألوان، والطابع المغربي الأندلسي، محاولا أن يحافظ على التوازن بين كل هذه المرجعيات البصرية. ولا يقتصر اشتغاله على اللون فحسب، بل يمزج هذا الأخير بالرمل والصمغ والخشب المنقوش وعناصر أخر، ما يجعل اللوحة تتخطى كونها لوحة إلى ما سميناه بـ«التنصبة المصغرة» ما يؤدي بالعمل لديه إلى مراوحة التصنيف بين ثنائية الحداثة والمعاصرة.
هذا اللايقين في التصنيف يعزى إلى اهتمام الفنان بالعمل لا بالتيارات وحدودها وتأطيراتها النظرية، فهو يشتغل على العمل الفني من حيث أنه عمل فني غني بالدلالات والرموز، لا يروم إلى أي التصاق بتيار معين والبقاء عند حدوده. لهذا تتعدد الأبعاد الروحانية والدلالية والفكرية في أعماله، من حيث أنه يبتغي وضع الإنسان/المتلقي أمام واجب التساؤل وضرورة السؤال، وفق متخيله الاستتيقي الخاص وبمهارة فنية، متفوقا في عقد مصالحة جمالية فارقة بين التراث البصري العربي الأندلسي وفتوحات الحداثة الجمالية، كما المعاصرة.
وللبلوغ بالعمل الفني إلى كل هذه الأبعاد، يعمد الفنان إلى الاشتغال على أطياف لونية وبصرية متعددة، تتداخل في ما بينها لتخلق نسيجا كونيا مصغرا وشاعريا، حيث يمثل فيه الفنان الهاشمي مناظر كونية من سدم ومجرات… تحضر بوصفها ظواهر طبيعية تختزل الفضاء، يعمد الفنان عبر معرضه الأخير إلى نقل المشاهد بين مختلف هذه الظواهر، ما يجعله يقف أمام رحلة موجزة في زمن الكوسموس.
جاءت جل الأعمال المعروضة مؤطرة بإطار مربع الشكل، في محاولة من الفنان لإنشاء صوره الساحرية في بعد يقارب التصور الميثولوجي القديم للكون، لما يحمله من دلالات عجائبية عن عالم ما بعد زرقة السماء. وكما نية منه ليجعل من المشاهد يدخل والمناظر في علاقة فيلمية، حيث أن السينمائي لا يعمد إلا لتصوير مشهد مؤطر ومحدد، تاركا للمتلقي كامل حرية تخيل ما هو خارج الحقل البصري وخارج الإطار. فبعين سينمائي يصور عزالدين الهاشمي عوالمه الكونية، معتمدا على تقنيات اللقطات المتوالية، مكونا بذلك من معرضه ما يمكن اعتباره متتاليات فيلمية تشكل فيلما كاملا على الجدار.
بين شاعرية الفضاء والتصوير المشهدي للعوالم الخارجية، لا يمكن فصل هذه الأعمال عن الجمالية التي تعرفها السُدم السماوية، هناك حيث يتكون العالم في كامل القسوة، مولدا أجراما حية، تتنفس وتتحرك. فالفنان هنا يمزج بين خاماته في قسوة التخيل، ليجعل منها مولّدا لتصاوير تحتفل باللون والشكل، وتتمتع بأرواح متعددة، تجعل منها تصاوير حية تنبض بالحياة، في فضاء ثلاثي الأبعاد يهيمن على كل الأعمال الفنية التي يعرضها الهاشمي.
لا ينحاز عزالدين الهاشمي الإدريسي إلى التمثيل من حيث أنه نقل دقيق للعالم الخارجي، بل إنه يعتمد التمثيل من المنطلق الذي يذهب إليه نيلسون غودمان، حيث أن الفنان يجعل العمل عامرا باستعارات يجلبـها من مجالات لا تكاد تكون مرتبطة في ما بينها، ما يملأ العمل بدلالات ورموز تبعده من كونه غرضا عاديا، وتنقله إلى مستوى الحضور. فالهاشمي يخرج خاماته من حالة الغياب إلى حالة الحضور هنا والآن، كاسيا إياها روحا فنية عليا. وهذا ما يجعل الأعمال الفنية التي يشتغل عليها، إلى جانب العمل فيها على الكون، تكتسي كونا خاصا بها، إنه كون حيث تختلف الأشكال ولا تتشابه، كأنها وليدة الصدفة التي تتحكم في تطور العالم.
يضعنا إذن هذا الفنان أمام أكوان /أعمال فنية متوازية، تحضر داخل إطار تصويري يمثل حياة الكون وروعته وشاعريته، بالإضافة لكونها أعمالا تحثنا على طرح الأسئلة المتعلقة بالإنسان نفسه وعلاقته بفضائه الخاص والخارجي. فهذا الاشتغال نابع من كون عزالدين الهاشمي الإدريسي، إضافة لأنه تشكيلي عصامي، فهو ناقد فني يدرك دور الفن وأهميته وضرورته في الحياة الإنسانية، إنه بهذا يرسم خريطة للكون حيث على الإنسان أن يظل طارحا للأسئلة. وهذه هي مهمة الفنان.