أفق – عدنان كريمة*
مع تطوُّر تداعيات فيروس “كورونا” المُسبِّب لمَرض “كوفيد 19” في سَنَتِه الثانية، يَسير الاقتصاد العالَميّ على طريق الخسائر الكبيرة. وبدأت تَظهر إشاراتُ تغيير وجه العالَم، من خلال مُواكَبة التأثيرات المُدمِّرة لهذا الوباء في زوايا الكرة الأرضيّة، وإنْ ببعض التفاوُت بين منطقةٍ وأخرى. وإذا كانت تداعيات “الجائحة” سينتج عنها تراجعٌ نسبيٌّ للولايات المُتّحدة في السنوات المُقبلة، بما يؤدّي إلى تآكُل النِّظام العالَميّ اللّيبراليّ، فإنّ الثنائيّة القطبيّة (كما الأحاديّة) لن تعود كما كانت مع صمود اقتصادات مناطق عدّة، ولاسيّما اقتصادات دول آسيا.
وفي ظلّ إتّساع نِطاق التوتّرات “الجيوسياسيّة”، واحتدام الحروب التجاريّة وما يرافقها من عقوباتٍ وقيودٍ على حركة تنقُّل الأموال والاستثمارات، خصوصاً بين الولايات المُتّحدة الأميركيّة والصين، وحتّى روسيا، فضلاً عن تداعيات الأزمة الماليّة العالَميّة، يعود الاهتمامُ بشكلٍ كبيرٍ إلى دَور الأقاليم التجاريّة وتأثير التكتُّلات “العملاقة” في الصراع القائم، حتّى أصبحت اللّاعب الرئيس على الساحة الدوليّة.
تَختلف أرقامُ خسائر الاقتصاد العالَمي باختلاف مَصادرها وتوقُّعات نتائج تداعياتها المُرتقَبة في السنوات المقبلة. وفي حين قدَّرت مُنظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية الخسائر بنحو 7 تريليون دولار، توقَّعت المُستشارة الاقتصاديّة في صندوق النقد الدولي جيتا جوبينات أن تَصلَ إلى 12.5 تريليون دولار خلال عامَي 2020 و2021، فيما قدَّرت شركةُ الجذور لتداوُل الأوراق الماليّة أن يَستمرّ تراكُم الخسائر لتبلغ نحو 17 تريليون دولار عام 2025. أمّا مؤتمر الأُمم المُتّحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، فقد أَشار إلى أنّه حتّى إذا حَدَثَ تعافٍ أقوى من التوقُّعات خلال العام الحالي، سيَخسر الاقتصادُ العالَمي نحو 10 تريليونات دولار من إجمالي النّاتِج المحلّي.
وكان الاقتصاد العالَمي قد سجَّلَ في العام الماضي أكبر انكماش له منذ تسجيل بيانات النشاط الاقتصادي في أوائل الأربعينيّات من القرن العشرين. وحذَّرت مُنظّمة “أونكتاد” من أنّه في حال اتَّخذت الدول الغنيّة إجراءاتٍ ماليّة ضخمة لتحفيز اقتصاداتها، كما فَعلت الولايات المُتّحدة مؤخّراً بإقرار حزمة تحفيزٍ بقيمة 1.9 تريليون دولار، وفي حين عاد الاقتصاد الصيني إلى النموّ في أواخر العام الماضي، فإنّ هناك الدول الأقلّ حجْماً والأفقر، تُعاني في مُواجَهة تداعيات “الجائحة”. ومن هنا تتحمَّل الدولُ النامية الجزءَ الأكبر من عبء التراجُع الاقتصادي، بسبب محدوديّة قدراتها الماليّة، وتشديد القيود على ميزان مدفوعاتها، وعدم كفاءة الدعم الدولي لها؛ مع العِلم أنّ البنك الدولي يتوقَّع نموّاً للاقتصاد العالَمي بمعدَّل 4 في المئة خلال العام الحالي، وتوقَّعَ صندوقُ النقد الدولي نموّاً بمُعدّل 5.5 في المئة.
ولعلّ أكثر الدول قلقاً من مُواجَهة تداعيات “كورونا”، دول جنوب شرق آسيا التي تَجِدُ اقتصاداتها الصاعدة وقد أصبحت عارية، حتّى أنّ بعض التقارير تتوقَّع أن تُدفن في النهاية الآمال في استمرار قدرتها على استعادة مُعدّلات النموّ التي سجَّلتها قبل الأزمة الماليّة الآسيويّة في أواخر تسعينيّات القرن العشرين، والتي دَفعتِ العالَم إلى إطلاق تعبير “النمور الآسيويّة” عليها. ويقول ميخائيل سبنسر كبير خُبراء الاقتصاد الآسيوي في مجموعة “دوتشه بنك” المصرفيّة، إنّ “العجز عن تحقيق مَناعة القطيع (في دول جنوب شرق آسيا) قد يؤدّي إلى تعثُّر نموّ اقتصادات تلك الدول لسنواتٍ عديدة مُقبلة”. وفي هذه الحالة قد يَجِد العالَم أنّ الولايات المُتّحدة هي “النمر الاقتصادي الجديد” بمعدّلاتِ نموٍّ قياسيّة تبلغ 7 في المئة خلال العام الحالي، وهو ما لم يحدث لأكبر اقتصاد في العالَم منذ العام 1984.
كارثة الهند ومجموعة “كواد”
يبدو أنّ العالَم لم يُفاجأ بأن تتعرَّض الهند لكارثة تداعيات “كورونا”. وربّما يعود ذلك إلى ضخامة عدد السكّان البالغ نحو 1.4 مليار نسمة، وقد سجَّل تعداد الأرقام حتّى مُنتصف أيّار (مايو) الماضي 25 مليون إصابة، ونحو 275 ألف حالة وفاة. وفي خضمّ الكارثة، فَقَدَ الاقتصادُ الهنديّ 130 مليون وظيفة، ومن المُتوقَّع تسريح أكثر من 150 ألف موظَّف عبر مُختلف شركات تكنولوجيا المعلومات الهنديّة في الأشهر القليلة المُقبلة. وخَضعت الهند إلى إغلاقٍ وطنيٍّ صارِم، ما أدّى إلى تراجُعٍ كبير في حَجْمِ التجارة الخارجيّة، ووفق بياناتٍ حكوميّة بَلَغَ عجزها التجاري نحو 15.24 مليار دولار في نيسان (إبريل) الماضي، حيث بَلغت الصادرات 30.21 مليار دولار، مُقابل ارتفاع المُستوردات إلى 45.45 مليار دولار. وتَعتبر مُنظّمة الصحّة العالَميّة أنّ الوضعَ في الهند “أكثر من مؤلم”، بعدما بَلَغَ تفشّي الوباء فيها مُستوياتٍ خطيرة وغير مسبوقة. لذلك تصاعَدت الدعواتُ من مُختلف دُولِ العالَم لتقديم المزيد من المُساعدات، وخصوصاً لتصنيع اللّقاحات ورفْع الحَظر عن تصدير الموادّ الخامّ العائدة لها.
في هذا السياق جاءت الخطوة الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن بالانخراط في “دبلوماسيّة اللّقاحات” مع الهند، لمُواجَهة الصين التي تُواصِل زيادة هِباتها “اللّقاحيّة” إلى دُولِ العالَم، وخصوصاً جنوب شرقي آسيا. وأَطلق بايدن، خلال أوّل قمّة رباعيّة لمجموعة “كواد” انعقدَت افتراضيّاً في 12 آذار (مارس) الماضي، وجَمَعَتْهُ بقادة أستراليا والهند واليابان، مُبادَرةً مُشترَكة لإنتاج مليار جرعة للقاحات مُضادّة لـ “كورونا” في الهند بحلول العام 2022، ستُقدَّم إلى دُولِ جنوب شرق آسيا، ومنطقة المُحيطَيْن الهندي والهادي. ووَصَفتِ الإدارةُ الأميركيّة هذه الخطوة بأنّها “أكبر تحدٍّ جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين”. وتَهدف واشنطن إلى تعزيز علاقات الولايات المُتّحدة مع الحُلفاء والشركاء، في ظلّ تنامي نفوذ الصين في آسيا وخارجها.
ويُعتبر تجمُّع “كواد”، رباعيّاً استراتيجيّاً، وغير رسميّ، بدأ الحوار في العام 2007 من قِبَلِ رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي، بدعْمٍ من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، ورئيس وزراء أستراليا جون هوارد، ورئيس وزراء الهند مانموهان سينغ. ولكنّ هذا الحوار توقَّف بعد انسحاب أستراليا خلال فترة ولاية رئيس الوزراء كيفين رود، ما عَكَسَ المَخاوِف الأستراليّة بشأن الانضمام إلى تحالُفٍ ضدّ الصين مع اثنَين من أعدائها التاريخيّين (اليابان والهند). وبعد تجميد هذا التجمُّع مدّة من الزمان، يأتي تحريكه وسط تدهورِ العلاقات الثنائيّة بين الصين والولايات المُتّحدة والهند وأستراليا، وذلك في مُحاولةٍ لردْعِ قدرة الصين عن تحدّي النظام القائم على القواعد وتعطيله، والوضع الراهن في المُحيطَين الهندي والهادي. ولكنّ ما يُقلق الدول الأربع هو استعداد الصين لاستغلال الاعتماد الاقتصادي المُتبادَل، لمُحاوَلةِ فرْض عقوبات غير رسميّة، كعقوباتٍ على الدول التي تُعارِضها.
تكتّلات إقليميّة
مع ازدياد عدد الاتّفاقيّات الإقليميّة الذي تجاوزَ عددُها 253 اتّفاقيّة، تَبرز أهميّة التأثير المُتصاعِد لمجموعات الأقاليم العملاقة، وأهمّها: اتّفاقيّة الشراكة العابرة للباسيفيك المعروفة بـ “TPP” والتي تضمّ ١٢ دولة (الولايات المُتّحدة، وكندا، والمكسيك، وتشيلي، والبيرو، وأستراليا، واليابان، ونيوزيلاندا، وبروناي، وماليزيا، وسنغافورة، وفيتنام)، وتُعتبر الأولى عالَميّاً لجهة حصّتها في المخزون العالَمي للاستثمارات الخارجيّة المباشرة. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قد سجَّل انتصاراً في تمّوز (يوليو) 2015، قبل نهاية ولايته الثانية، بحصوله على قرارٍ من مجلس الشيوخ بتوقيع هذه الاتّفاقيّة. وعلى الرّغم من أنّ السبب المُعلن لاختيار الدول الأعضاء، هو وجودها على جانبَي المُحيط الهادي في كلٍّ من آسيا وأميركا، إلّا أنّ السبب الحقيقي هو قطْع الطريق على الصين ومنْعها من الاستحواذ على الجزء الأكبر من التجارة الحرّة مع هذه الدول، إذ يبلغ حجْمُ مُستهلكي التكتُّل 770 مليون نسمة، ويُمثِّل اقتصادُه 40% من إجمالي النّاتج العالَمي، وأكثر من ثلث حجْم التجارة العالَميّة.
في المُقابل، هناك تكتّلُ دولِ “البريكس”، الذي يتكوَّن من خمس دول (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا)؛ ونظراً لما لهذه الدول من قُدراتٍ اقتصاديّة وقواعد إنتاجيّة وصناعيّة وزراعيّة كبرى ومَوارد طبيعيّة ومعدنيّة هائلة، وخبراتٍ فكريّة وتكنولوجيّة، فهي مؤهَّلة لتكون من أقوى التكتُّلات الاقتصاديّة. ووفق بيانات البنك الدولي، تُمثِّل هذه الدول 53 في المئة من سكّان العالَم، وقد بَلغ حجْمُ النّاتج الاقتصادي للتكتّل نحو 5.16 تريليون دولار. وبَلغتْ احتياطاته من العملات المُشترَكة نحو 4 تريليون دولار. وفضلاً عن ذلك، يعمل “البنك الآسيوي للاستثمار” على البنية الأساسيّة، بجانب بنك التنمية الجديد الذي أسَّسته المجموعة، كبديلٍ واضح ومُنافِسٍ للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللّذَين تُهيمن عليهما الدولُ الغربيّة بقيادة الولايات المُتّحدة الأميركيّة.
مَصالِح استراتيجيّة
في وسط التوتّرات المُتصاعدة، يبدو أنّ هناك تصميماً من دول الرباعي “كواد” لبذْلِ المزيد من الجهد لكبْحِ نفوذ الصين. لكنّ بعض المُحلّلين يرون أنّ هذا التحالُف يُواجِه تحدّياتٍ كبيرة، أبرزها أنّه لا يوجد إجماعٌ بين شركائه حول كيفيّة المضيّ في ردْعِ بكين، في وقتٍ يرى بعضهم أنّه ليس هناك ما يكفي من المَصالِح الاستراتيجيّة المُشترَكة لقبول المُخاطَرة على الجبهة العسكريّة، وأنّ مَصالحهم في منطقة المُحيطَين الهندي والهادي تقودهم إلى إعطاء الأولويّة لمجالاتٍ مُختلفة. مثال على ذلك تَعتبر الولايات المُتّحدة بحرَ الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي أمراً حيويّاً. والشيء نفسه ينطبق على اليابان. أمّا أستراليا، فإنّ اهتمامها يشمل أيضاً غرب المُحيط الهادي. لكنّ الأمرَ بالنسبة إلى الهند، هو أنّ الرباعيّة تدور حول المُحيط الهندي. أمّا بحر الصين الجنوبي فهو مسرح ثانويّ.
يبقى الأخطر من ذلك أنّ الصين هي أكبر شريك تجاري لأستراليا، وثاني أكبر شريك تجاري لليابان. وقد انضمّا في العام الماضي إلى الشراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشاملة التي تقودها الصين (RCEP). هذا فضلاً عن أهميّة دَور الهند التي تَستجيب للتعاوُن مع مجموعة “كواد” بقيادة واشنطن في المُحيطَيْن الهندي والهادي، وهي أحد الأعمدة الثلاثة الرئيسة في تكتُّل “البريكس” مع روسيا والصين، بالإضافة إلى أنّ اقتصادها سجَّل انكماشاً بنحو 7.5 في المئة السنة الماليّة المُنتهية، لكن يُتوقّع أن يُسجِّل نموّاً قويّاً بمعدّل 11 في المئة في السنة الجديدة التي بدأت في نيسان (إبريل) االماضي، وهو مُرشَّح لاحتلال المَرتبة الثانية في لائحة أكبر اقتصادات العالَم، بعد الاقتصاد الصيني، في حال صَدقت تقاريرٌ دوليّة، تتوقَّع تراجُع الاقتصاد الأميركي إلى المرتبة الثالثة.
*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان