قالت مجلة “إيكونوميست” (economist) البريطانية إن الآفاق الاقتصادية في العالم باتت تعتمد اليوم على مواد أخرى بالغة الأهمية، على غرار اللقاحات التي يتم إنتاجها أيضا بشكل محدود ولها تأثير سياسي ويتم توزيعها بشكل غير متساوٍ.
ويساعد تطعيم السكان -في نطاق واسع- الولايات المتحدة على الازدهار، مما يدفع التضخم الأساسي لبلوغ أعلى معدلاته منذ عام 1992. في الأثناء يجعل تأخرُ عملية شراء اللقاحات وصنعها وتوزيعها العديدَ من بلدان العالم عرضة لتفشي فيروسات جديدة ومواجهة نكسات اقتصادية.
ويضطلع مجلس الاحتياطي الفدرالي بوضع السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن صدى قراراته ومداولاته يتردد عالميا، وتشمل تداعياتها الترفيع في تكاليف الاقتراض بالنسبة للاقتصادات على الجانب الآخر من التنافس على اللقاح.
ووفقا للبنك الدولي -الذي قام بتحديث تكهناته هذا الشهر (يونيو)- من المنتظر أن يسجل الاقتصاد العالمي نموا سريعا هذا العام (2021) بنسبة 5.6%، ولكن في حين تعتبر الآفاق واعدة أمام الدول الغنية التي عملت العديد منها على تطعيم شعوبها بسرعة نسبية؛ يبدو أن بعض الاقتصادات تسير بالاتجاه المعاكس في المناطق التي تأخر فيها التطعيم، لا سيما أفقر البلدان.
ومن بين الاقتصادات الكبرى التي ركز عليها البنك الدولي؛ من المتوقع أن تحقق الاقتصادات العشرة التي تتمتع بأعلى معدلات التطعيم نموا بنسبة 5.5% هذا العام بمعدل متوسط، بينما يرجح أن تنمو الاقتصادات العشرة ذات أقل معدلات تطعيم بنسبة 2.5% فقط.
التفاوت في التطعيم
بفضل وتيرة التطعيم الأميركية ارتفعت توقعات معدل نمو الاقتصاد الأميركي لعام 2021 من 3.5% إلى 6.8% منذ أن أصدر البنك الدولي آخر توقعاته في يناير الماضي. وتعتبر التوقعات الخاصة بالاقتصادات الناشئة -التي اتبعت عملية تطعيم سريعة- أفضل من نظرائها.
وضمن أفقر 29 اقتصادا في العالم؛ تلقى 0.3% فقط من السكان جرعة واحدة من اللقاح، وقد تدهورت آفاق نمو هذه المجموعة بالفعل منذ يناير/كانون الثاني الماضي، ومن المقرر أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لهذه الاقتصادات بنسبة 2.9% هذا العام وليس بنسبة 3.4% كما كان متوقعا قبل 6 أشهر، ليكون ثاني أسوأ أداء لهذه البلدان خلال العقدين الماضيين، علما أن أسوأ أداء سُجل العام الماضي (2020).
وذكرت المجلة أن التطعيم يساعد البلدان على النمو بطريقتين على الأقل، فهو يسمح للدول بالتخفيف من إجراءات الإغلاق أو أي قيود أخرى مفروضة على التفاعل الاجتماعي من شأنها أن تعيق الاقتصاد.
وأشارت مؤسسة “غولدمان ساكس” (Goldman Sachs) المصرفية إلى أن البلدان التي يُرجح أن تحقق أداء متفوقا خلال الأشهر القليلة المقبلة هي تلك التي تحرز تقدما سريعا في حملة التطعيم بينما لا تزال تفرض قيودا اجتماعية، وفي هذه البلدان لا تزال البيانات الاقتصادية مُحبِطة بسبب القيود التي ستخفف قريبا بفضل وتيرة التطعيم، أما في بلدان أخرى -مثل تايوان- لم تظهر حالات تفشي جديدة لكوفيد-19 بالكامل في المؤشرات الاقتصادية السائدة التي لا تزال قوية.
ويكشف نموذج “ناو كاست” لـ”جي بي مورغان” -الذي يحاول التنبؤ بوضعية الاقتصاد اليوم بناء على استطلاعات وبيانات شهرية- أن تايوان نمت بوتيرة سنوية وصلت إلى 9% في الربع الثاني، لكن في الحقيقة يعتقد البنك أن اقتصاد تايوان سينكمش خلال تلك الفترة.
وعلى النقيض من ذلك، يتوقع جي بي مورغان أن يؤدي التطعيم واسع النطاق في منطقة اليورو إلى رفع معدل النمو خلال هذا الربع إلى أكثر من 7 بالمائة بوتيرة سنوية، مع ذلك يتوقع نموذجهم الحالي نموا أقل من 3 بالمائة.
وبالنظر إلى مدى اتساع فجوة اللقاحات العالمية، قد يتساءل البعض كيف يمكن الحد منها بسرعة؟ يعتقد غولدمان أن كلا من اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل وتركيا والمكسيك ستتمكن من تطعيم نصف سكانها بجرعة واحدة على الأقل بحلول أغسطس المقبل، لكن لن تصل جنوب أفريقيا والهند إلى هذا المعدل حتى ديسمبر، وتعافى العديد من الأشخاص بالفعل من الفيروس في كلا البلدين، مما يمنحهم نسبة معينة من المناعة الطبيعية.
ومن جهته، يعتقد مايكل سبنسر من دويتشه بنك (Deutsche Bank) أن الهند قد تحقق مناعة جماعية بنسبة 70% خلال أقل من 9 أشهر، وذلك باحتساب كل من أصيب بعدوى سابقة أو تلقى الجرعة الأولى من اللقاح.
الانتعاش مقابل التضخم
ترى مجلة إكونوميست أن الانتعاش غير المتكافئ أفضل من عدمه، لكن وتيرة نمو بعض البلدان قد تخلق مشاكل إضافية لبلدان الأخرى.
فعلى سبيل المثال، أدى الازدهار في الولايات المتحدة إلى ارتفاع أسعار المستهلكين لديها بنسبة 5% في ماي الماضي، مقارنة بالعام الذي سبقه، ويمكن أن يؤثر أيضا على الأسعار في مجالات أخرى، وقامت كل من تركيا والبرازيل بتشديد السياسة النقدية في الأشهر الأخيرة، على الرغم من المعاناة المستمرة التي يخلفها الوباء.
في 11 يونيو الجاري، رفع البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة للمرة الثالثة منذ مارس، وقد أشارت محافظة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا إلى أن معدلات التطعيم والسياسات النقدية والمالية المتساهلة للغاية في الاقتصادات الكبرى هي التي تقف وراء بلوغ التضخم الروسي 6%، وعبّرت نابيولينا عن قلقها من أن التضخم المرتفع في روسيا وأماكن أخرى قد يثبت أنه أكثر استمرارا مما كان متوقعا في البداية.
قد يجبر عدم تكافؤ سعر التلقيح البلدان غير المحمية من الفيروس على اتباع سياسة تقشف مبكر وتشديد السياسة النقدية
وحتى التضخم المؤقت يمكن أن يسبب اضطرابا في الأسواق المالية، مما يدفع المستثمرين ليشكوا في التزام الاحتياطي الفدرالي بالمال السهل، حيث يمكن أن يزيد ذلك من المخاطرة التي تتحملها الأسواق الناشئة فيما يتعلّق بالاقتراض، ويخشى صانعو السياسة في هذه البلدان تكرار نوبة التخفيف التدريجي التي حصلت عام 2013، عندما أدى حديث بنك الاحتياطي الفدرالي -عن تخفيض مشترياته من الأصول- إلى ارتفاع مفاجئ في عائدات السندات الأميركية وعمليات بيع موجعة في أصول الأسواق الناشئة.
وسيظل التضخم العالمي هذا العام بعيدا كل البعد عن المعدلات مزدوجة الأرقام التي شهدها الركود التضخمي خلال السبعينيات، ولكن مثلما أجبرت أزمة النفط في ذلك الوقت صانعي السياسة على التعامل مع وضعيات حرجة مما أجبرهم على رفع أسعار الفائدة في مواجهة الضعف الاقتصادي؛ فإن نقص اللقاحات هذا العام يمكن أن يخلق معضلة مشابهة، قد يجبر عدم تكافؤ سعر التلقيح البلدان غير المحمية من الفيروس على اتباع سياسة تقشف مبكر وتشديد السياسة النقدية.
وكان تقرير للمجلة نبه نهاية العام الماضي (2020) إلى احتمالات حدوث فترة تضخم أكثر استدامة وإن كان قد وصفها بالـ “ضئيلة”، وحذر من أنه إذا اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لمنع خروج ارتفاع الأسعار عن السيطرة، فإن العواقب ستكون وخيمة، وستتعثر الأسواق والشركات المثقلة بالديون.