أفق – عدنان كريمة*
إذا كان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قد استطاع، في عقدَيْن من الزَّمن، ردَّ الاعتبار لموسكو بعد الانهيار العظيم لهَيْكلِها السوفياتيّ، وتمكَّن في قمّة جنيف الأخيرة من خطفِ الأضواء على المسرح الدوليّ، إلّا أنّه اصطدمَ بإظهار القمّة من الجانب الأميركيّ على أنّها “مُحادثات ثنائيّة”، وليست “ثنائيّة قطبيّة”، وخصوصاً أنّ واشنطن المُنتصِرة في الحرب الباردة، لن تتراجَع عن “زعامة العالَم”، وأنّ الرئيس جو بايدن، الذي جاء من بروكسل حاملاً تفويضاً من دولِ الاتّحاد الأوروبيّ والحلف الأطلسيّ للتحدّث باسمها، دَخَلَ القمّةَ مرتاحاً من نتائج لقاءات مجموعة الدول السبع التي كانت مُطمئنّة إلى “وحدة التصدّي للصين”.
وبما أنّ الصين هي الهاجس الأميركي الكبير منذ سنوات عدّة، وأنّ بايدن أكَّد بعد لقائه بوتين أنْ “لا بديل عن اللّقاءات الشخصيّة”، ينتظر المُراقبون باهتمامٍ كبير لقاءه مع الرئيس الصيني تشي جين بينج في قمّة مجموعة العشرين التي تستضيفها إيطاليا في تشرين الأوّل/ أكتوبر المُقبل.
ولعلّ أهمّ ما لَفَتَ المُراقبين في قمّة جنيف التي استمرّت نحو 4 ساعات مُتوالية، هو نجاح بوتين في التقاط صورة وزّعتها أجهزته الإعلاميّة والأمنيّة على وسائل الإعلام، تُظهر نشوة الانتصار على مَن وصف “قَيصر الكرملين” قبل فترة بـ “القاتل”. هذا فضلاً عن غيابِ كاملِ الكيمياء بين الرئيسَيْن، وتجنُّب مُعالجة القضايا المُلحَّة والمُتوتّرة، التي قد تؤدّي إلى كوارث استراتيجيّة. لذلك أكّد الرئيسان على ضرورة منْع نشوب حرب نوويّة، وإدخال تعديلات في معاهدة “نيوستارت” للحدّ من الأسلحة النوويّة. كما اتّفَقا على استئناف مُحادثات الحدّ من التسلُّح، وعودة سفيرَيْ البلدَيْن إلى واشنطن وموسكو بعد سحْبهما في وقتٍ سابق. ولَفَتَ الرئيسان في بيانهما المُشترَك إلى “أنّ روسيا والولايات المُتّحدة، حتّى في سنوات التوتُّر، أَظهرتا قُدرتهما على تحقيقِ أهدافٍ مُشترَكة لضمان الاستقرار الاستراتيجي. ويدلّ التمديد الأخير لمُعاهَدة الحدّ من الأسلحة الهجوميّة (ستارت 3) على انحيازنا إلى الرقابة على الأسلحة النوويّة”. ومن أجل ذلك يعتزم البلدان “بدْء الحوار الثنائي الشامل حول الاستقرار الاستراتيجي الذي سيكون موضوعيّاً ومُكثَّفاً”. مع العِلم أنّ الوفدَيْن استعرَضا قائمةً طويلة من الاتّهامات والمَطالِب والتحذيرات من تجاوُز “الخطوط الحمر” التي باتت لازمة في الحديث عن العلاقات بين البلدَيْن والتي بَلغت مستوىً من التوتّر لم تعرفه منذ عقود.
ولكنّ اللّافت أيضاً في هذا المجال أنّ القمّة التي بدأت بلقاء الرئيسَين، اختُتِمت بمؤتمرٍ صحافي مُنفصِل لكلٍّ منهما، تجاوُباً مع طلب واشنطن تحاشي أيّ فخ يُمكن أن ينصبه زعيم الكرملين، كما حدثَ في مُناسباتٍ سابقة مع الرئيسَيْن دونالد ترمب وباراك أوباما.
العقوبات الأميركيّة
بوتين الذي أَظهر في سنيّ حُكمه أنّه لا يحبّ الخسارة، يُمتحنُ من داخل البيت الروسي، وعند عتبة البيت في أوكرانيا والقوقاز وبيلاروسيا، وفي المياه الدافئة على الشواطىء السوريّة واللّيبيّة للبحر المُتوسّط، ومن جديد في قلب أفريقيا الحارّة، وهو حتماً لن ينسحب من أيّ نِزالٍ يُعتبر تحدّياً وجوديّاً له ولروسيا. لكنّ الطموح السياسي الكبير يحتاج إلى مُحرِّكٍ اقتصادي أكبر، لا يبدو مُتوافِراً الآن، ولا بعد حين. ولوحِظ أنّه قبيل انعقاد قمّة جنيف، اشتدّ التوتُّر السياسي، وارتفعت حدّة العقوبات الاقتصاديّة الأميركيّة، واتَّسع إطارها ضدّ روسيا التي هدَّدت بالردّ عليها “بـفصل اقتصادها عن الدولار”، على الرّغم من اعترافها بأنّه “لاغنى عنه” في التجارة الدوليّة، لكونه يلعب دَوراً مُهمّاً على الصعيد العالَمي، ومن المستحيل “الحياة من دونه”، لكنّه يجعل روسيا في حالة أضعف في مُواجَهة العقوبات الأميركيّة.
وتنطلق موسكو في تهديدها من أنّ الولايات المُتّحدة تَستخدم العملة الأميركيّة كسلاحٍ ضدّ القطاعَيْن المالي والصناعي الروسيَّيْن. وهي تلتقي بذلك مع سلسلة تقارير دوليّة، وَصفت الدولار بأنّه عملة دوليّة، ويَمنح أميركا نفوذاً ماليّاً وسياسيّاً كبيراً، وأنّه سلاحٌ قاتل يُمكن استخدامه في الحروب الاقتصاديّة، وقوّة ضغط في المَعارِك العسكريّة. ويَبرز ذلك بشكلٍ جليّ في احتدام الحروب التجاريّة المُتعدّدة والمتنوّعة، وما يُرافقها من حروبٍ في أسعار صرف العملات الدوليّة.
وتختلف النظرة بين البلدَين إلى نتائج تطبيق العقوبات؛ ففي حين تُقلِّل موسكو من تأثير مفعولها، على لسان المُتحدّث باسم الرئاسة الروسيّة ديمتري بيسكوف الذي أكّد أنّها “لم ولن تُحقِّق أهدافها”، يقول كبير مُساعدي البيت الأبيض للشؤون الاقتصاديّة داليت سينغ إنّها “حقَّقت حتّى الآن نتائج قريبة للغاية ممّا كنّا نأمل فيه”. ويرى الجانب الأميركي أنّ العقوبات تأتي “مقابل تصرّفات حكومة روسيا وأجهزة استخباراتها ضدّ سيادة الولايات المُتّحدة ومصالحها”، فضلاً عن “تقويض الأمن في البلدان والمناطق المهمّة للأمن القومي الأميركي، وهي تنتهك مبادىء القانون الدولي الراسخة، بما في ذلك احترام وحدة أراضي الدول”. ولكنّ اللّافت في هذا المجال أنّ الرئيس بوتين لخَّص النتائج بقوله “الخسائر الأميركيّة من العقوبات ليست أقلّ من الخسائر الروسيّة”.
وكان الرئيس بايدن قد وقّع في نيسان/ إبريل الماضي مرسوماً يُتيح مُعاقبة روسيا مُجدَّداً بشكلٍ يؤدّي إلى “عواقب استراتيجيّة واقتصاديّة، في حال واصَلت أو شجَّعت تصعيد أعمالها المُزَعْزِعَة للاستقرار الدولي”. وإذا كانت عقوبات واشنطن تشمل تنفيذ تعليمات وزارة الخزانة التي تُحظّرعلى المؤسّسات الماليّة الأميركيّة المُشارَكةَ في السوق الأوليّة المُقوَّمة بالروبل أو بغير الروبل، الصادرة عن مؤسّسات ماليّة روسيّة، فإنّ ردّ موسكو يأتي عبر التهديد بالتخلّي عن استخدام الدولار في مختلف عمليّاتها الماليّة، وخصوصاً في صندوق الثروة الوطني الذي تبلغ قيمة أصوله حاليّاً نحو 186 مليار دولار، ويتكوّن من العملة الأميركيّة بنسبة 35% وبما يُعادل 40 مليار دولار، تأتي من عائدات بيع النفط، مقابل 35% أيضاً باليورو. ومع التخلّي عن الدولار، تصبح الأصول موزّعة بين 40% لليورو، و30% لليوان الصيني، و20% للذهب، و5% لكلٍّ من الجنيه الإسترليني والينّ الياباني.
ووفقاً لتطوّر العلاقات بين واشنطن وموسكو، فإنّ التخلّي الروسي عن الدولار ليست خطوة جديدة، بل هي مسيرة طويلة، بدأت عام 2010 بتقليص ملكيّتها في سندات الخزانة الأميركيّة من 176 مليار دولار إلى 96 ملياراً عام 2014، واستمرّت في التخلّي عنها بشكلٍ تدريجي إلى 4.9 مليار دولار في نهاية العام الماضي. ومُقابل ذلك، اتَّجهت إلى شراء الذهب. وهي تمتلك حاليّاً ما قيمته 128.5 مليار دولار. ووفق أرقام البنك المركزي، زادت حيازات روسيا من الذهب والعملات الأجنبيّة لتصل في نيسان/ إبريل الماضي إلى 589 مليار دولار، مُتجاوِزةً المستوى المُستهدَف عند 500 مليار دولار، وتشمل مخزون الذهب النقدي والعملات الأجنبيّة وأصول حقوق السحب الخاصّة (أس. دي. آر).
الحرب الاقتصاديّة
أقلّ ما يُقال، مع بروز اللّاعب الروسي، إنّ بوتين أَثبت وجوده على المسرح الدولي في ذروة التنافُس الأميركي الصيني على زعامة العالَم، مؤكِّداً أنّه لا يُمكن إبعاد روسيا عن رسْمِ مُستقبل الاقتصاد العالَمي. وعلى الرّغم من أنّه يُدرك أنّ الصين هي الهاجس الذي يتملّك السياسة الخارجيّة الأميركيّة منذ سنوات، فإنّه ليس من مصلحة واشنطن إبقاء جبهة المُواجَهة مفتوحة على مصراعَيْها مع موسكو، إذا كانت تُريد التفرُّغ لاحتواء صعود الصين التي رفعت هذه المُواجَهة مؤخّراً إلى مصافّ التهديد الاستراتيجي.
هكذا، تنظر واشنطن إلى روسيا على أنّها ليست مُنافِساً مباشراً للولايات المُتّحدة، بل هي مجرّد لاعب ثانوي “يستميت ليظلّ قوّة كبرى”، في موازاة انشغاله بوقْف تدهوُر العلاقات بين البلدَيْن ودَرء خطر نشوب “صراع نووي”. ولكنّها أكّدت لحلفائها في بروكسل ولندن والاتّحاد الأوروبي والحلف الأطلسي ومجموعة الدول السبع، وقبل انعقاد قمّة جنيف، أنّها تُركّز على مُواجَهة الخطر الصيني الذي يُعتبر في صلب المصلحة الأميركيّة، وهي الأكثر دلالة في سياق فهْمِ وجهة السياسة الخارجيّة للإدارة الجديدة، وما يتبعها من تعزيزٍ لمصالحها على مستوى العالَم في المرحلة المُقبلة تحت شعار “أميركا عادت”. وعلى الرّغم من استمرار التبايُنات والثقل الذي أَرخته رئاسة دونالد ترامب على العلاقات بين ضفّتَي الأطلسي، تمكَّن بايدن في قمّته مع بوتين من الركون إلى دعْمِ حشْدٍ وازِنٍ من الحُلفاء لتوجّهاته تجاه موسكو وبكين. ومن أبرز تعبيراته دخول “الناتو” على خطّ لجْمِ الاندفاعة الصينيّة.
لا شكّ في أنّ الذي دَفَعَ الولايات المُتّحدة إلى تركيز مُواجهتها على الخطر الصيني، هو ازدياد قوّة الصين يوماً بعد يوم، تكنولوجيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، حتّى أصبحت مُنافِساً رئيساً لا يُستهان به على المستوى العالَمي. وفي هذا السياق يأتي إقرارُ مجلس الشيوخ، في الثامن من حزيران/ يونيو الماضي وبمُوافَقة الحزبَيْن الديموقراطي والجمهوري، مشروع قانونٍ يقضي بتخصيص استثمارات تصل إلى 52 مليار دولار في العلوم والابتكار التكنولوجي، وذلك بهدف مُواجَهة السيطرة الصينيّة الكاسحة في هذا القطاع. كما تخصّص الخطّة الأميركيّة 120 مليار دولار للوكالة الحكوميّة (مؤسّسة العلوم الوطنيّة) وتشمل مبلغ 1.5 مليار دولار، لتطوير شبكة الجيل الخامس للاتّصالات، وهو أحد مجالات التوتُّر الرئيسة بين البلدَيْن. وقد لاقت هذه الخطوة استياءً من بكين التي اتَّهمت واشنطن بـ “جنون العظمة والغرور”، وفق بيانٍ للجنة الشؤون الخارجيّة في البرلمان الصيني، والذي اعتبر أنّ واشنطن تُبالِغ في ما يُسمّى “التهديد الصيني”.
وإذا كان يُنتظر من داء فيروس “كورونا”، بتداعياته المُتوالية، أن يُغيِّر وجهَ العالَم، وكذلك “العَولمة”، عن النموذج الذي ساد في العقدَيْن الأخيرَيْن نحو شموليّة أقلّ، وإذا كانت هذه الجائحة قد تطيح بزعامة أميركا (وفق بعض التوقُّعات)، فما هي الدولة البديلة هنا يا ترى؟
في الواقع، طرأت تغيّراتٌ كثيرة نتيجة الخسائر الكبيرة التي لَحقت باقتصادات مختلف دول العالَم جرّاء تداعيات “كورونا”. وإذا كان بعض التوقّعات يُرشّح الصين لقيادة الاقتصاد العالَمي، تليها الهند، على أن يُصبح الاقتصاد الأميركي القوّةَ الثالثة، فهل تُترجم قيادة الصين العالَم اقتصاديّاً إلى قيادةٍ سياسيّة، كما هي الولايات المُتّحدة الآن؟.. لا شكّ في أنّ تحقيق ذلك دونه صعوبات، وربّما كان مُستحيلاً لأسبابٍ عدّة، من أهمّها أنّ زعامة الولايات المُتّحدة للعالَم ليست اقتصاديّة فقط، بل سياسيّة وعسكريّة وثقافيّة، وأنّ الصين تحتاج الى جهود كبيرة ووقت طويل، وتُواجِه صعوباتٍ مُرتبطة بنظامها السياسي واللّغة والثقافة ونمط العيش. ويكفي في هذا المجال مُقارنتها بالولايات المُتّحدة التي تقوم بدَورٍ قياديّ مُهمّ، ولاسيّما بصفتها المُورِّدة للعملة الاحتياطيّة الرئيسة عالَميّاً، وفي تعبئة الأموال القابلة للاستثمار في العالَم وتخصيصها، حيث يتدخّل المصرف الاحتياطي الفيدرالي بقوّة في الأسواق العالَميّة. ولكن على الولايات المُتّحدة الأميركيّة في الوقت نفسه العمل على إقامةِ نظامٍ دولي أكثر عدالة، باعتبارها لاعِباً مُهَيمِناً على صندوق النقد والبنك الدوليّين، ومجموعة الدول السبع، ومجموعة العشرين.. فضلاً عن ذلك، فإنّ واشنطن لن تُسلّم للصين بسهولة، حتّى لو اضطرَّت إلى خَوْضِ حروب أو مُواجَهاتٍ مُختلفة ومُتنوّعة معها.
*كاتب وإعلامي اقتصادي من لبنان