تشير ورقة بحثية إلى أن خسارة هيمنة الدولار ليست حتمية، حيث إن الحفاظ عليه يحتاج إلى إرادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة في عالم اليوم لتخفيض العجز المالي والتجاري، والحفاظ على دور الدولار كملاذ آمن، على ضوء التطورات المتسارعة لجائحة “كورونا” التي تسببت في تكبد العديد من الدول والقطاعات الاقتصادية خسائر فادحة، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمي.
وتؤكد المقالة أنه في ظل التحديات التي قد يواجهها الرئيس المقبل، فإن التساؤلات ما زالت تُطرح حول وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهل سيمكن الاحتفاظ بذلك الوضع خلال السنوات المقبلة، حيث قام “أليكس أنتز”، وهو محلل سابق في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، بإعداد مقال تحليلي حول تنافسية وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية.
الوضع الحالي للدولار
وتبرز الورقة، المنشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أنه بعد ما يقرب من 50 عاماً من إنهاء الولايات المتحدة لنظام “بريتون وودز”، لا يزال الدولار هو العملة المهيمنة في العالم؛ ففي وقتنا الحالي، يتم استخدام الدولار فيما يقرب من (85٪) من جميع معاملات الصرف الأجنبي. كما أن ما يقرب من ثلثي جميع الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك المركزية هي بالدولار.
ومنذ بداية التجارة والتمويل الدوليين، كانت هناك ثلاث عملات احتياطية عالمية، وهي: الجيلدر الهولندي الذي ساد خلال الفترة من القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، والجنيه الإسترليني البريطاني الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم الدولار الأمريكي الذي اكتسب الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية.
مزايا العملات الاحتياطية العالمية
ويتيح احتفاظ الدولار بمكانته كعملة احتياطية على المستوى العالمي مزيجاً من المزايا والمخاطر، فمنذ عام 1945 أضحى الدولار هو العملة العالمية المهيمنة بلا منازع على نظام التجارة العالمي. وبشكل عام، يطرح ذلك الوضع مجموعة من المزايا يوردها المقال فيما يلي:
أولا- تعزيز الموقف المالي للولايات المتحدة الأمريكية: حيث تسعى البنوك المركزية في دول العالم، خاصة تلك الموجودة في الدول النامية، إلى الاحتفاظ بأصول مقومة بالدولار يمكن بيعها بسهولة من أجل شراء عملاتها، ودعم اقتصاداتها في أوقات الأزمات.
ثانيا: حائط صد لحماية الاقتصاد الأمريكي: يحمي تفوق الدولار الاقتصاد الأمريكي من الصدمات الناشئة في الخارج. فبغض النظر عن حالة الاقتصاد العالمي، يُنظر إلى الدولار على أنه استثمار جذاب.
فعندما يكون الاقتصاد الأمريكي قوياً، يضخ المستثمرون الأموال في السوق الأمريكية، مما يزيد من الطلب على الدولار ويعزز وضع العملة؛ بل إنه عندما يكون الاقتصاد العالمي ضعيفاً أو كانت توقعاته غير مؤكدة، يدفع المستثمرون الأموال أيضاً للسوق الأمريكية، مما يؤدي بالمثل إلى ارتفاع قيمة الدولار. فالوضع القوي للدولار يعزل المستهلكين في الولايات المتحدة عن تقلبات الأسواق العالمية، ويحمي مستوى معيشتهم.
فمع بداية جائحة (كوفيد-19)، ارتفع الدولار بنسبة (8٪) حتى مع انهيار العملات الرئيسية الأخرى.
ثالثا- تحسين القدرة التنافسية للشركات الأمريكية: يعمل تفوق الدولار -على صعيد آخر- على تحسين القدرة التنافسية للشركات الأمريكية، حيث إن الشركات الأمريكية لا تحتاج عادةً إلى التحوط ضد تحركات أسعار الصرف. وينطبق هذا بشكل خاص على الشركات التي تصدر الديون بالدولار، حيث لا تواجه المشاكل الخاصة بعدم تطابق العملة.
رابعا- أداة لممارسة النفوذ العالمي: بالإضافة إلى كل ما سبق، تعد هيمنة الدولار أداة قوية لممارسة النفوذ العالمي، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في المؤسسات المالية متعددة الأطراف التي تشرف على النظام المالي العالمي، حيث مثلت هذه المؤسسات، ولا سيما صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي، قنوات لممارسة نفوذ الولايات المتحدة، من خلال النظام القائم على القواعد ضد المنافسين الأكثر استبداداً، وفي مقدمتهم الصين.
وبشكل عام، تساعد الهيمنة الدولارية والأهمية المصاحبة للنظام المالي الأمريكي على ضمان بقاء الولايات المتحدة صوتاً مهيمناً في الشؤون العالمية.
خامسا- شن الحروب الاقتصادية: تقترن هيمنة الدولار بقدرة الولايات المتحدة على شن الحروب الاقتصادية. ففي الوقت الحالي، تُدير وزارة الخزانة الأمريكية أكثر من 30 نظاماً للعقوبات، والتي تستهدف مجموعة من الدول؛ في مقدمتها كوريا الشمالية وإيران وبوروندي.
وتحجب برامج العقوبات الأصول الخاصة بالأفراد والكيانات المحظورة، كما تخضع الشركات والبنوك التي تتعامل مع كيان محظور لغرامات ضخمة، مما يحفزها على تجنب التعامل معها.
وفي الوقت نفسه، تمنع الكيانات الأجنبية التي تتعامل مع الكيانات المحظورة من الوصول إلى النظام المالي الأمريكي.
العملات المنافسة للدولار
في الوقت الذي سيطر فيه على العقلية الأمريكية تصور بأن الين الياباني قد يكون هو أكثر العملات المرشحة لمنافسة الدولار الأمريكي عقب إلغاء نظام “بريتون وودز”، وذلك بصورة كبيرة خلال فترتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبصورة أقل في أوائل التسعينيات، حيث اعتقد أكثر من ربع الأمريكيين أن اليابان هي أقوى قوة اقتصادية في العالم، وكان أكثر من نصفهم يرون أن هذه القوة الاقتصادية تمثل تهديداً كبيراً للولايات المتحدة من المعسكر السوفياتي؛ إلا أنه بعد انفجار فقاعة الأسهم والعقارات في أوائل التسعينيات، تباطأ النمو الياباني، وانهار التضخم إلى الصفر تقريباً، ومن ثمّ تراجع الاعتقاد بمنافسة الين للدولار لصالح مجموعة من العملات الأخرى من أهمها:
أولا- العملة الأوروبية (اليورو): أضحى اليورو (وهو العملة المدعومة من البنك المركزي الأوروبي، والذي تم طرحه في عام 1999) على مدى العقدين الماضيين، هو العملة الأكثر منافسة للدولار، حيث يتم الاحتفاظ حالياً بحوالي (20٪) من الاحتياطيات العالمية باليورو (ثاني أكبر حصة من الاحتياطيات).
لكن قدرة اليورو على الهيمنة تقوضها مشاكل رئيسية عديدة: الأولى هي أن اليورو عملة شاملة يتم تداولها عبر اقتصادات 19 دولة لا تشترك في سوق أصول مشترك. ومن ثم، فإنه لكي تتطور عملة احتياطي عالمي يحتاج المستثمرون إلى أن يكونوا قادرين على وضع أموالهم في أسواق عميقة وسائلة، ولا يوجد سوى القليل من هذه الأسواق في منطقة اليورو.
على صعيد آخر، يواجه اليورو أيضاً نمواً ضعيفاً. وفي ظل ضعف التوقعات في السنوات المقبلة، فإن المستثمرين قد يتراجعون عن وضع أموالهم في أسواق قد تواجه حالة من التدهور. أما المشكلة الأخيرة في منطقة اليورو فتكمن في سياستها. فبصفتها اتحاداً نقدياً بدون اتحاد مالي، كافحت منطقة اليورو لتعويض فترات الازدهار والانهيار الائتمانية المدمرة. وقد أدى ذلك إلى تباعد واسع في النتائج الاقتصادية، مما أدى إلى تأجيج الاستياء السياسي بين الدول.
ثانيا- العملة الصينية (الرنمينبي): يمثل تدويل الرنمينبي عنصراً أساسياً في إستراتيجية الصين للخروج من سياسة “الاختباء والمباشرة” التي تهدف إلى إخفاء صعوده، علماً بأن التدويل سيقلل من اعتماد الصين على الولايات المتحدة، ويساعدها على تطوير أسواقها، ويؤسس لطرح شنغهاي كمركز مالي بديل. وفي هذا السياق، دفعت الحكومة الصينية الشركات الخاصة إلى إصدار الفواتير وتسوية الصفقات بالرنمينبي، وطلبت من الشركات الحكومية أن تحذو حذوها، وشجعت البنوك المركزية الأخرى على تبني الرنمينبي. كما ستساعد مبادرة “الحزام والطريق”، والتي تسعى من خلالها إلى استخدام مؤسساتها لتمويل وبناء البنية التحتية فيما يصل إلى 68 دولة، على تدويل الرنمينبي من خلال إنشاء نظام تجاري يدور حول الشركات الصينية.
أما على صعيد التحديات، فإن الصين تواجه بعض العقبات الكبيرة على المدى القصير، فحالياً يتم إجراء 2٪ فقط من المعاملات عبر الحدود باليوان الصيني. فمنذ عام 2015، أوضحت الإجراءات التي اتخذها بنك الشعب الصيني أن القادة السياسيين سيستمرون في السيطرة على قيمة العملة. وبدلاً من الاستمرار في تحرير حساب رأس المال الخاص بها، شددت الصين من ضوابط رأس المال.
ثالثا- نظام حقوق السحب الخاصة.. صندوق النقد الدولي: يعد من ضمن المنافسين التقليديين لوضع الدولار، وهو أصل احتياطي دولي استحدثه صندوق النقد الدولي، حيث يخصص أصلاً احتياطياً يسمى “حق السحب الخاص” (SDR) للدول الأعضاء، مع قيمة تستند إلى سلة من العملات (حققت الصين نجاحاً رئيسياً في تدويل عملتها عندما قام صندوق النقد الدولي بإدراج اليوان في هذه السلة في عام 2015).
وقد تمثل الهدف الأساسي من حقوق السحب الخاصة في أن تكون بمثابة شكل إضافي للسيولة في نظام بريتون وودز القائم على الدولار. وقد قام صندوق النقد الدولي بالصرف من ذلك الاحتياطي منذ إنشائه في أربع مناسبات منذ عام 1970، وذلك على الرغم من دعوات الصين المتكررة لتوسيع استخدام حقوق السحب الخاصة في الثمانينيات والتسعينيات.
رابعا- العملات المشفرة (الافتراضية): ففي ظل رواج الاقتصاد الرقمي، اكتسبت العملات الافتراضية المشفرة المزيد من الاهتمام من جانب المستثمرين عبر التعاملات الرقمية، فقد طرحت شركة “فيسبوك” عملتها المشفرة الجديدة (Libra) والتي تأمل بأن تصبح الأساس لنظام مالي جديد، لا يسيطر عليه سماسرة السلطة، سواء في وول ستريت أو البنوك المركزية. وتعتمد قيمة (Libra) على قيمة سلة من العملات -مثل حقوق السحب الخاصة- وهي مخصصة للاستخدام الفردي، لا سيما لإرسال الأموال عبر الحدود. كما ستحل هذه الوظيفة الأخيرة محل الأنظمة المكلفة مثل (Western Union) وغيرها.
كيف يمكن الحفاظ على الهيمنة الدولارية؟
يشير الكاتب إلى أنه في حين تتعدد العملات الوطنية والافتراضية التي أضحت تهدد الوضع التنافسي للدولار كعملة احتياطية عالمية؛ إلا أن التهديد الأكبر أصبح يأتي من الداخل نتيجة لسوء الإدارة المالية والنقدية، والتدخلات المتكررة وغير المحسوبة من جانب القادة السياسيين الأمريكيين.
وبناء عليه، طرح الكاتب مجموعة من الإجراءات التي يجب على صانعي السياسة التفكير جدياً في العمل عليها لضمان استمرار جني الفوائد المرتبطة بهيمنة الدولار كعملة احتياطية عالمية. ومن أهم تلك الخطوات: تخفيض الديون الوطنية، وخفض عجز الحساب الجاري، ودعم الاحتياطي الفيدرالي، وتقليل التلاعب بالدولار، والحد من الاستخدام المفرط لآلية العقوبات.