بعد نهوضها من الغرق، بدأت مدينة البندقية العائمة وأجمل الوجهات السياحية العالمية، تستعيد نشاطها عقب أسوء فيضانات في تاريخها، إثر ارتفاع منسوب المياه في نونبر 2019 لمستويات قياسية غمرت العديد من ميادينها ومبانيها وكنائسها التاريخية، وأثرت بقوة على الرواج السياحي، الذي يعتبر العمود الفقري لاقتصادها.
فبعد هول الصدمة التي خلفها ارتفاع المياه إلى مستوى استثنائي بلغ 1,87 متر وجرفه لمراكب الجندول الشهيرة وإغراق 80 في المائة من المدينة، استنهضت البندقية قواها بسرعة وعادت فيها الحياة إلى طبيعتها، لكن الصور التي التقطت لها وهي غارقة لاتزال عالقة في أذهان الكثير من السياح الذين أصبحوا متخوفين من زيارتها.
هذ التراجع لثقة السياح في المدينة الجميلة، أكده بالأرقام رئيس اتحاد أصحاب الفنادق في البندقية فيتوريو بونتشيني، الذي قال إن الارتفاع غير المسبوق للمياه الذي يعرف في إيطاليا بظاهرة (أكوا ألتا) كانت له تداعيات جسيمة “دمرت بالكامل الصورة السياحية” لمدينة البندقية.
وتابع “يمكننا القول بدون أدنى حرج أن جميع الحجوزات الفندقية تم إلغاؤها بنسبة 50 في المائة خلال الفترة من نونبر 2019 إلى يناير 2020، وهو ما يمثل “ضربة قوية جدا” لاقتصاد فينيسيا، تكبدت خسائرها الفنادق على الخصوص وخلفت أيضا أضرارا اجتماعية.
وأضاف في تصريح للصحافة أنه إلى حدود اليوم، لم يطرأ أي تغيير على الحجوزات، إذ ليست هناك حجوزات جديدة وحتى في شهري مارس وأبريل المقبلين يتوقع أن يظل الحال كما هو عليه بسبب استمرار المخاوف من احتمال ارتفاع المياه من جديد.
وأوضح أنه “عندما يفكر بعض السياح حاليا في البندقية، يتخيلون أنها مدينة غير آمنة وبأن القدوم إليها محفوف بالمخاطر، كل هذه الأفكار مروعة بالنسبة لنا”. وأكد أنه بعد مرور عشر ساعات فقط على ما وقع في 12 نونبر 2019، استأنفت الفنادق عملها وفتحت المتاحف و المطاعم أبوابها وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي.
وأبرز أن البندقية مدينة عالمية فريدة من نوعها ولها معالم تاريخية استثنائية، لكن من غير المنطقي أن تثني مخاوف لا أساس لها وليس هناك ما يبررها” السياح عن زيارتها.
وسجل رئيس اتحاد أصحاب الفنادق أن حتى كرنفال الأقنعة والملابس التنكرية الذي تتوصل احتفالاته تأثر بضعف إقبال السياح، حيث تراجعت نسبة الحجوزات في الفنادق بنسبة 10 في المائة، معتبرة أن الوضع السياحي في المدينة” ليس على مايرام”.
وشدد بالقول على أنه “لابد من زيارة البندقية والتأكد من أن هذه التحفة العالمية استعادت عافيتها بصورة مذهلة”.
وفي أوج السباق نحو إنقاذ المدينة من الغرق مرة أخرى واستعادة وهجها السياحي، برز مشروع “إم أو إس إيه” أو موسى، وهو مشروع ضخم بكل المقاييس، سواء من حيث تقنياته التكنولوجية أو كلفته.
وتعتبر السلطات المحلية أن مشروع موسى، الذي تصل كلفته إلى 5 ملايير دولار، هو السلاح الحاسم ضد مد المياه. فهو عبارة عن 80 سدا أو حاجزا حديديا في قاع البحر عند مدخل كل قناة مائية إلى المدينة، تهدف للتحكم في حركة المد والجزر، ومنع الأمواج العالية من الوصول إلى شوارع المدينة المائية، ليصبح ارتفاع المياه ثابتا ويتم التحكم فيه تماما كما هو الحال في السدود الأخرى.
وفي إطار الجهود المبذولة للحفاظ على البندقية المدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، يشارك العشرات من سائقي قوارب الجندول بالمدينة في حملة تنظيف بارتداء بزات الغوص والنزول إلى قاع القنوات المائية لجمع النفايات.
وأوضح أندريا بالدي، رئيس سائقي الجندول في البندقية أن المتطوعين يجمعون سنويا أربعة أطنان ونصف من النفايات، دافعهم وراء ذلك حبهم لمدينتهم، مشيرا إلى أن قائدي الجندول الذين خضعوا لتدريبات مستمرة حول كيفية الغوص في قاع القنوات المائية يقومون بهذا العمل تطوعيا وبالمجان.
ويعتبر ماسيميليانو دي مارتين، المسؤول عن البيئة وتخطيط المدن، أن السياح يشكلون دعامة أساسية لاقتصاد البندقية، لكنهم مدينون أيضا بالكثير لسكان المدينة البالغ عددهم 260 ألف نسمة.
وشدد مارتين على أهمية الحفاظ على نظافة المدينة، وقال “لذا أطلب من “ضيوفنا أن يقولوا شكرا … ليس بالكلمات… ولكن بحرصهم على عدم إلقاء النفايات”.
ويذهب المجلس البلدي إلى أبعد من ذلك، بتوزيع خرائط للمدينة تتضمن تعليمات واضحة جدا، من قبيل: يمنع تناول الطعام أثناء الجلوس على الأرض والاستلقاء على الجسور أو المعالم الأثرية. أما في حال تمت مخالفة القواعد المعمول بها، تفرض غرامة مالية تتراوح بين 100 و200 أورو، وقد تصل أحيانا إلى 350 أورو إذا ما تم رمي النفايات على أرض البندقية التي تم بناؤها فوق 118 جزيرة، على رأس البحر الأدرياتيكي، في شمال إيطاليا.
وقبل وقوع الفيضانات التاريخية، كان يقصد المدينة العائمة حوالي 36 مليون سائح سنويا، 14 مليونا منهم يقضون فيها يوما واحدا فقط للتنزه، بما يعني، حسب البعض، عدم استفادة الفنادق والمتاجر بالخصوص من أي دخل. وضع اشتكت منه الساكنة والفاعلون الاقتصاديون، ليقرر مجلس البندقية فرض رسوم دخول على الزوار تحدد قيمتها وفق رواج حركة السياحة وقت الزيارة.
ودخلت الجمعيات على الخط، إذ أكدت مارياريتا سينيوريني رئيسة منظمة “إيطاليا نوسترا”، التي تعنى بالدفاع عن تراث إيطاليا الثقافي والطبيعي أن “البندقية فريدة من نوعها ولا يمكن أن نسمح بتدميرها أكثر مما هي مدمرة بالفعل”، مشيرة إلى أنه ينبغي حظر السفن السياحية من الاقتراب من الهور لتفادي وقوع كارثة بيئية.
كما يحذر بعض الخبراء من أن ارتفاع درجة حرارة الأرض سيؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحر، وفي النهاية فسوف تغطى المياه الساحل الأدرياتيكي، ومدينة البندقية بحلول عام 2100.
ولعل تظافر هذه العوامل المتشابكة يجعل المعادلة الصعبة التي توجه المسؤولين في البندقية تتمثل في التوفيق بين الحفاظ على المدينة من خطر التدهور البيئي، الذي يهدد بقائها وإنعاش الاقتصاد المحلي بضمان استدامة الرواج السياحي في واحدة من أكثر مدن إيطاليا أناقة وروعة.