رياح العولمة تجعل الشوارع الكبرى مصفا للعلامات المحلية والعالمية في الإلكترونيات والبنوك والتأمينات والموضة والسيارات والاتصالات، تغدو هذه الدول في ذهنية الفرد معادلا لمنسوب جودة معينة وبريستيج مصنف في ميزان الذوق، هي الخط الأول لمعركة البقاء في سباق السوق.
في فاس، تنزل عواصم ومدن أوربا ضيفة على واجهات المقاهي التي تنبض بالحركة نهارا ومساء، كفضاء اجتماعي بامتياز، يضرب الخلان مواعيدهم في باريس، أمستردام، قرطبة، ميلانو… لعل الخلفية الاجتماعية تفسر هذا الإنزال، فاس والمناطق المحيطة بها منشأ رئيس لهجرة الجيل الأول والثاني، والعائدون منهم بعد اغتراب… قد يفضل إيداع مدخراته في مشروع يحقق ضمانات نجاح ميسر، فيطيب له أن يخلد مقامه البعيد اسما يصاحب مورد معاشه في أرض العودة، يحضر الشرق أيضا بمقاهي تيمنت باسطنبول وطرابلس ودبي وأسوان.
في زاويته الثابتة، يمازح مالك المطعم حفيدته الصغيرة.. يناديها “ندى”.. هو الاسم المعلق على اللوحة المطرزة بحروف مشكلة، كثيرون مثله يفضلون تكريم أحبائهم أو تخليد شجرة العائلة في موقع يتطلع إليه العابر ذهابا وإيابا، والحال أن بعض الأسماء تجاوزت نطاقها العائلي لتصبح عنوان جودة بل علامة مسجلة لها سلطتها الرمزية، “بن الشريف”، العائلة الفاسية العريقة التي ظلت رائدة في استيراد وصناعة الأقمشة الفاخرة منذ القرن التاسع عشر، يتناسل لقبها في محلات عبر أنحاء المغرب وخارجه، مؤرخا لقصة نجاح وتميز متواصلين. لا يمكن لفنون الدعاية الحديثة أن تقنع مسيري هذا المشروع بتغيير اسم أصبح عملة في السوق، الاسم العائلي يحافظ على ثقله في الحرف والصناعات التقليدية المتوارثة، تصبح السلالة الممتدة قرينة مصداقية وإتقان، ذلك شأن محلات المجوهرات المتراصة عبر ملاح المدينة العتيقة.
عطاء الله، خيرات بلادي، البركة…إحالات ترتبط بمحلات تقديم الأطعمة، خصوصا الشعبية منها، أسماء تستدعي العمق الروحي في علاقة المغاربة بالطعام بوصفه فضلا إلهيا ونعمة ثمينة تصان وتحمد.
وقد تأتي الأسماء سليلة خصوصيات المهنة نفسها، فيضفي المرء على محل الخياطة شهادة “الإتقان” و”المقص الذهبي”، وتدبج بوابة الوكالة العقارية ب “الصدق” في قطاع رأسماله الثقة التي تنغصها حكايات النصب والتدليس التي تتناقلها الألسن، وتحمل المكتبة شعلة “النور” وترفع مدرسة خصوصية علم “المعرفة” أو تداعب حلم الآباء بأبناء على خطى “ألفرد نوبل”، بينما تكتفي مشاريع أخرى بالانتماء إلى المكان حاملة اسم الحي، الشارع، الساحة، وقد توثق صلة بمسقط الرأس في “عقاقير سوس” أو “عجلات مرزوكة” أو “تمور تافيلالت”.
أول الطريق إلى قلب الزبون وعقله اسم يصنع الإبهار ويسكن في ركن ما من الذاكرة، هكذا يخمن البعض ممن يستوردون أعلاما من وراء البحار، فضل صاحب البتزيريا أن يحلق بفانتازم الجائع إلى مهد الوجبة، في إيطاليا، ومضى آخر إلى تتبيل الشاوارما بليالي “الشام”. معالم فاس التي كانت تتسيد واجهات المحلات انحسرت، لم يبق إلا القليل من “القرويين” و “مولاي ادريس” بينما تكاد تصبح الفرنسية “موضة قديمة” أمام لغة العولمة الكاسحة التي تملي معايير الرقي والانتماء إلى المستقبل، لأنها فسيحة وأنيقة، فإن المالك فضل أن يصنفها “بالاس”، هي نفسها الفضاء الذي كان يمكن تسميته مقهى أو قاعة شاي، على نهجه سار أصحاب “الشوب” و “الفاست فود” و “الفاشن” و “المايك آب”، و”التوب ستايل”.
تغير وجه المدينة، على الأقل، لم يكن الاسم التجاري سنة جارية في السوق، لطالما حدد البقال والميكانيكي والخياط موقعهم المهني بهوياتهم الشخصية، بأمكنة تواجدهم، يرشد السائلون بالإشارة والمسافة حتى بلوغ المقصد، هناك عند الزاوية، في نهاية الشارع، على اليمين مباشرة…. وكثير منهم لا يخلي لتحولات الزمن فرصة تغيير نمط معاشه، يفك هذا الشيخ الذي يصلح أواني النحاس زكروم الباب بصريره الذي يعود بالذاكرة إلى الوراء، ينزوي في ركنه ويعلق رزقه على من خبرهم من زبائن أوفياء لا تغويهم طرائق العرض والترويج الجديدة. هوس التسويق والدعاية لا يتعايش مع ثقافة الكفاف.
ولا يخل سوق الأسماء من مفارقات، يحدث أن يغير المحل جلده، كان مكتبة خطت على لافتتها “رياض الفكر”، وطالتها عوارض الإفلاس، فآل المكان إلى جزارة لا يهتم صاحبها بتخويلها اسما يدل عليه، والنتيجة أن اللحم يقطع ويقد والذباب يحتفي بولائم الدم، تحت اليافطة ذاتها: “رياض الفكر”.
إن هي إلا أسماء..لكن حمولتها الرمزية وأهميتها في سوق الإنتاج والمنافسة قائمة، هي المصاحب الصوتي والبصري للسلعة والخدمة المعروضة، عتبة نحو الاكتشاف، ولو أنها أبعد من حسم نجاح منتج لا يربح إلا بجودة يختبرها الزمن.